فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ}:
منصوبٌ ب {سَيَكْفرون} أو ب {يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أو ب {نَعُدُّ} تَضَمَّن معنى المجازاة، أو بقوله: {لا يَمْلكون} الذي بعده، أو بمضمرٍ وهو (اذكر) أو احْذَرْ. وقيل: هو معمولٌ لجوابِ سؤالٍ مقدرٍ، كأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقيل: يكون يوم يُحْشَرُ. وقيل: تقديرُه: يوم نَحْشُر ونَسُوق نَفْعَلُ بالفريقين ما لا يٌحيط به الوصفُ.
قوله: {وَفْدًا} نصبٌ على الحال، وكذلك {وِرْدًا}. والوَفْدُ: الجماعة الوافِدُون. يُقال: وَفَدَ يَفِدُ وَفْدًا وَوُفُودًا ووِفادَةً، أي: قَدِمَ على سبيل التَّكرِمة، فهو في الأصل مصدرٌ ثم أُطْلِق على الأشخاصِ كالصَّفِّ. وقال أبو البقاء: (وَفْدُ جُمعُ وافِد مثلَ راكِب ورَكْب وصاحِب وصَحْب) وهذا الذي قاله ليس مَذهبَ سيبويه لأنَّ فاعِلًا لا يُجْمَعُ على فَعْل عند سيبويه. وأجازه الأخفش. فأمَّا رَكْبٌ وصَحْبٌ فأسماءُ جمعٍ لا جَمْعٌ بدليلِ تصغيرها على ألفاظها، قال:
أَخْشَى رُجَيْلًا ورُكَيْبًا غادِيا

فإن قلت: لعلَّ أبا البقاء أراد الجمعَ اللغويَّ. فالجواب: أنَّه قال بعد قوله: (والوِرْدُ اسمٌ لجمعِ وارِد) فَدَلَّ على أنه قصد الجمعَ صناعةً المقابلَ لاسمِ الجمع.
{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)}.
والوِرْدُ: اسمٌ للجماعةِ العِطاشِ الوارِدينَ للماءِ، وهو في الأصلِ أيضًا مصدرٌ أطْلِقَ على الأشخاص يقال: وَرَدَ الماءَ يَرِدُه وِرْدًا ووُرُوْدًا. قال الشاعر:
رِدِي رِدي وِرْدَ قَطاةٍ صَمَّا ** كُدْرِيَّةٍ أَعٍجَبَها بَرْدُ المَا

وقال أبو البقاء: هو اسمٌ لجمعِ وارِد. وقيل: هو بمعنى وارِد. وقيل هو محذوفٌ مِنْ {وارِد} وهو بعيدٌ يعني أنه يجوز أَنْ يكونَ صفةً على فِعْل.
وقرأ الحسن والجحدريُّ {يُحْشَر المتقون ويُساق المجرمون} على ما لم يُسَمَّ فاعلُه.
قوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ}:
في هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سِيْقت للإِخبارِ بذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ممَّا تقدَّم. وفي هذه الواوِ قولان، أحدهما: أنها علامةٌ للجمع ليسَتْ ضميرًا البتَة، وإنما هي علامةٌ كهي في لغةِ (أكلوني البراغيث) والفاعلُ {مِنْ اتَّخَذَ} لأنه في معنى الجمع. قاله الزمخشري. وفيه بُعْدٌ، وكأنه قيل: لا يملك الشفاعةَ إلا المتخذون عَهْدًا. قال الشيخ: (ولا ينبغي حَمْلُ القرآنِ على هذه اللغةِ القليلةِ مع وضوحِ جَعْلِ الواوِ ضميرًا. وقد قال الأستاذ أبو الحسن ابنُ عصفور: إنها لغة ضعيفة).
قلت: قد قالوا ذلك في قوله تعالى: {عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71] {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] فلهذا الموضعِ بهما أُسْوَةٌ.
ثم قال الشيخ: (وأيضًا فالألفُ والواوُ والنونُ التي تكون علاماتٍ لا ضمائرَ لا يُحْفَظُ ما يجيءُ بعدها فاعلًا إلا بصريح الجمع وصريحِ التثنية أو العطفِ، أمَّا أنْ يأتيَ بلفظٍ مفردٍ، ويُطلَقَ على جمع أو مثنى، فيُحتاج في إثباتِ مثلِ ذلك إلى نَقْلِ. وأمَّا عُوْدُ الضمائرِ مثناةً أو مجموعةً على مفردٍ في اللفظِ يُراد به المثنى والمجموعُ فمسموعٌ معروفٌ في لسانِ العرب، على أنه يمكنُ قياسُ هذه العلاماتِ على تلك الضمائرِ، ولكن الأَحْوَطَ أن لا يُقال إلا بسماعٍ).
والثاني: أن الواوَ ضميرٌ. وفيما تعود عليه حينئذٍ أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: انها تعودُ على الخَلْق جميعِهم لدلالة ذِكْر الفريقين- المُتَّقين والمجرمين- عليهم، إذ هما قِسْماه. والثاني: أنه يعودُ على المتقين والمجرمين، وهذا لا تظهر مخالفتُه للأولِ أصلًا لأنَّ هذين القسمين هما الخَلْقُ كله. والثالث: أنه يعودُ على المُتَّقين فقط أو المجرمين فقط، وهو تَحَكُّمٌ. قوله: {إِلاَّ مَنِ اتخذ} هذا الاستثناءُ يترتيب على عَوْدِ الواو على ماذا؟ فإنْ قيل بأنَّها تعودُ على الخَلْقِ أو على الفريقَيْن المذكورَيْن أو على المتَّقين فقط فالاستثناءُ حينئذٍ متصلٍ.
وفي محلِّ المستثنى الوجهان المشهوران: إمَّا على الرفعُ على البدلِ، وإمَّا النصبُ على أصلِ الاستثناء. وإنْ قيل: إنه يعودُ على المجرمينَ فقط كان استثناءً منقطعًا، وفيه حينئذٍ اللغتان المشهورتان: لغةُ الحجازِ التزامُ النصبِ، ولغةُ تميمٍ جوازُه مع جوازِ البدلِ كالمتصل.
وجَعَلَ الزمخشريُّ هذا الاستثناء من {الشفاعة} على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: لا يملكونَ الشفاعةَ إلا شفاعةَ مَنِ اتَّخذ، فيكون نصبُه على وَجْهَي البدلِ وأصلِ الاستثناء، نحو: (ما رأيت أحدًا إلا زيدًا). وقال بعضُهم: إن المستثنى منه محذوفٌ والتقديرُ: لا يملكون الشفاعةَ لأحدٍ لِمَن اتَّخَذَ عند الرحمن عَهْدًا، فَحُذِفَ المستثنى منه للعلم به فهو كقول الآخر:
نجا سالمٌ والنفسُ منه بِشِدْقِهِ ** ولم يَنْجُ إلا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا

أي: ولم يَنْجُ شيءٌ.
وجَعَلَ ابنُ عطية الاستثناءَ متصلًا وإن عاد الضميرُ في {لاَّ يَمْلِكُونَ} على المجرمين فقط على أَنْ يُراد بالمجرمين الكفرةُ والعُصاةُ من المسلمين. قال الشيخ: (وحَمْلُ المجرمين على الكفارِ والعُصاة بعيدٌ). قلت: ولا بُعْدَ فيه، وكما اسْتَبْعَدَ إطلاقَ المجرمين على العصاة كذلك يَسْتَبعد غيرُه إطلاقَ المُتَّقين على العُصاة، بل إطلاقُ المجرمِ على العاصي أشهرُ مِنْ إطلاقِ المتَّقي عليه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)}.
قيل ركبانًا على نجائب طاعاتهم، وهم مختلفون؛ فَمِنْ راكبٍ على صدور طاعاته، ومن راكبٍ على مراكب هِمَمِه، ومن راكبٍ على نجائب أنواره. ومِنْ محمولٍ يحمله الحقُّ في عقباه كما يحمله اليومَ في دنياه. وليس محمولُ الحقِّ كمحمول الخَلْق!
{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)}.
فأولئك يُساقون بوصف العِزَّ، وهؤلاء يُساقون بنعت الذُّلِّ، فيجمعهم في السَّوْقِ، ولكن يُغَابر بينهم في معانيه.... فشتَّان ما هما!!
{لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)}.
وذلك العهدُ حِفْظُهم في دنياهم ما أُخِذَ عليهم- يومَ الميثاق- من القيام بالشهادة بوحدانية مولاهم. اهـ.

.تفسير الآيات (88- 95):

قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أبطل مطلق الشفعاء، وكان الولد أقرب شفيع، وكانوا قد ادعوا له ولدًا، أبطل دعواهم فيه لينتفي كل شفيع خاص وعام، فينتفي كل عز راموه بشفاعة آلهتهم وغيرها.
فقال عاطفًا على قوله: {واتخذوا من دون الله آلهة} موجبًا منهم: {وقالوا} أي الكفرة {اتخذ الرحمن} أي الذي لا منعم غيره، فكل أحد محتاج إليه وهو غني عن كل أحد {ولدًا} قالت اليهود: عزير، والنصارى: المسيح، والمشركون: الملائكة، مع قيام الأدلة على استحالته عليه سبحانه؛ ثم استأنف الالتفات إلى خطابهم بأشد الإنكار، إيماء إلى تناهي الغضب فقال: {لقد} أي وعزتي! لقد {جئتم شيئًا إدًّا} أي عظيمًا ثقيلًا منكرًا؛ ثم بين ثقله بقوله: {تكاد السماوات} على إحكامها، مع بعدها من أصحاب هذا القول {يتفطرن} أي يأخذن في الانشقاق {منه} أي من هذا الشيء الإدّ {وتنشق الأرض} على تحتها شقًا نافذًا واسعًا {وتخر} أي تسقط سريعًا {الجبال} على صلابتها {هدًا} كما ينفسخ السقف تحت ما لا يحتمله من الجسم الثقيل، لأجل {أن ادعوا} أي سموا {للرحمن} الذي كل ما سواه نعمة منه {ولدًا} هذا المفعول الثاني، وحذف الأول لإرادة العموم {وما ينبغي} أي ما يصح ولا يتصور {للرحمن أن يتخذ ولدًا} لأنه غير محتاج إلى الولد بوجه، ومع ذلك فهو محال، لأن الولد لا يكون إلا مجانسًا للوالد، ولا شيء من النعم بمجانس للمنعم المطلق الموجد لكل ما سواه، فمن دعا له ولدًا قد جعله كبعض خلقه، وأخرجه عن استحقاق هذا الاسم، ثم أقام الدليل على غناه عن ذلك واستحالته عليه، تحقيقًا لوحدانيته، وبيانًا لرحمانيته، فهدم بذلك الكفر بمطلق الشريك بعد أن هدم الكفر بخصوص الولد فقال: {إن} أي ما {كل من} أي شيء من العقلاء، فهو نكرة موصوفة لوقوعها بعد كل وقوعها بعد رب {في السماوات والأرض} الذين ادعوا أنهم ولد وغيرهم {إلا}.
ولما كان من العبد من يعصي على سيده، عبر بالإتيان فقال: {ءاتي الرحمن} العام بالإحسان، أي منقاد له طوعًا أو كرهًا في كل حالة وكل وقت {عبدًا} مسخرًا مقهورًا خائفًا راجيًا، فكيف يكون العبد ابنًا أو شريكًا؟ فدلت الآية على التنافي بين العبودية والولدية، فهي من الدليل على عتق الولد والوالد إذا اشتريا.
ولما كان من المستبعد معرفة الخلائق كلهم، أتبعه بقوله: {لقد} أي والله لقد {أحصاهم} كلهم إحاطة بهم {وعدهم} ولما كان ذلك لا يكاد يصدق، أكده بالمصدر فقال: {عدًا} قبل خلقهم من جميع جهات العبد ولوازمها، فلم يوجد ولم يولد، ولم يعدم أو يصب أحد منهم إلا في حينه الذي عده له، وقد يكون الإحصاء قبل الوجود في عالم الغيب والعد بعد الوجود {وكلهم} أي وكل واحد منهم {ءاتيه يوم القيامة} بعد بعثه من الموت {فردًا} على صفة الذل، موروثًا ماله وولده الذي كنا أعطيناه في الدنيا قوة له وعزًا، لأنه لا موجود غيره يقدر على حراسة نفسه من الفناء، فهو لا شك في قبضته، فكيف يتصور في بال أو يقع في خيال أن يكون شيء من ذلك له ولدًا أو معه شريكًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)}.
اعلم أنه تعالى لما رد على عبده الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولدًا: {وَقَالَتِ اليهود عَزِيزٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] وقالت العرب الملائكة بنات الله والكل داخلون في هذه الآية ومنهم من خصها بالعرب الذي أثبتوا أن الملائكة بنات الله قالوا لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة أما الآن فإنه لما رد على العرب الذين قالوا بعبادة الأوثان تكلم في إفساد قول الذين قالوا بعبادة الملائكة لكونهم بنات الله أما قوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} فقرىء إدًا بالكسر والفتح.
قال ابن خالويه الإد والأد العجب وقيل المنكر العظيم والأدة الشدة وأدنى الأمر وآدنى أثقلي.
قرئ {يتفطرن} بالتاء بعد الياء أعني المعجمة من تحتها واختلفوا في {يكاد} فقرأ بعضهم بالياء المعجمة من تحتها وبعضهم بالتاء من فوق، والانفطار من فطرة إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه وقرأ ابن مسعود {يتصدعن} وقوله: {وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا} أي تهد هدًا أو مهدودة أو مفعول له أي لأنها تهد والمعنى أنها تتساقط أشد ما يكون تساقط البعض على البعض، فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله تعالى في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ قلنا فيه وجوه: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى يقول أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبًا مني على من تفوه بها لولا حلمي وأني لا أعجل بالعقوبة كما قال: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].
وثانيها: أن يكون استعظامًا للكلمة وتهويلًا من فظاعتها وتصويرًا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده.
وثالثها: أن السموات والأرض والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول وهذا تأويل أبي مسلم.
ورابعها: أن السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها أما قوله: {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
في إعرابه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون مجرورًا بدلًا من الهاء في منه أو منصوبًا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي هذا لأن دعوا أو مرفوعًا بأنه فاعل {هَدًّا} أي هدها دعاء الولد للرحمن، والحاصل أنه تعالى بين أن سبب تلك الأمور العظيمة هذا القول.
المسألة الثانية:
إنما كرر لفظ الرحمن مرات تنبيها على أنه سبحانه وتعالى هو الرحمن وحده من قبل أن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه.
المسألة الثالثة:
قوله: {دَعَوْا للرحمن} هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلبًا للعموم والإحاطة بكل من ادعى له ولدًا أو من دعا بمعنى نسب الذي هو مطاوعة ما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير مواليه» قال الشاعر:
إنا بني نهشل لا ندعى لأب

أي لا ننتسب إليه، ثم قال تعالى: {وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} أي هو محال، أما الولادة المعروفة فلا مقال في امتناعها، وأما التبني فلأن الولد لابد وأن يكون شبيهًا بالوالد ولا مشبه لله تعالى ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله من سروره به واستعانته به وذكر جميل، وكل ذلك لا يليق به، ثم قال: {إِن كُلُّ مَن في السموات والأرض إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْدًا} والمراد أنه ما من معبود لهم في السموات والأرض من الملائكة والناس إلا وهو يأتي الرحمن أي يأوي إليه ويلتجىء إلى ربوبيته عبدًا منقادًا مطيعًا خاشعًا راجيًا كما يفعل العبيد، ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة والأول أولى لأنه لا تخصيص فيه وقوله: {لَّقَدْ أحصاهم وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي كلهم تحت أمره وتدبيره وقهره وقدرته فهو سبحانه محيط بهم، ويعلم مجمل أمورهم وتفاصيلها لا يفوته شيء من أحوالهم وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردًا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم براء منهم. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.
فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْوَالِدِ لَا يَبْقَى عَلَى وَلَدِهِ فَيَكُونُ عَبْدًا لَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تعالى فَرَّقَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْعَبْدِ، فَنَفَى بِإِثْبَاتِهِ الْعُبُودِيَّةَ النُّبُوَّةَ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ بِالشِّرَى»، وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّاسُ غَادِيَانِ فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا وَمُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا»، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنْ يَبْتَدِئَ لِنَفْسِهِ عِتْقًا بَعْدَ الشِّرَى، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: مُعْتِقُهَا بِالشِّرَى، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ»، وَهُوَ كَقوله: «فَيَشْتَرِيَهُ فَيَمْلِكَهُ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِئْنَافَ مِلْكٍ آخَرَ بَعْدَ الشِّرَى بَلْ يَمْلِكُهُ بِالشِّرَى.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الشِّرَى أَنَّ وَلَدَ الْحُرِّ مِنْ أَمَتِهِ حُرُّ الْأَصْلِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقٍ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي لِابْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ احْتَاجَ الْمُشْتَرِي لِابْنِهِ إلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقٍ لَاحْتَاجَ إلَيْهِ أَيْضًا الِابْنُ الْمَوْلُودُ مِنْ أَمَتِهِ؛ إذْ كَانَتْ الْأَمَةُ مَمْلُوكَةً.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ وَلَدَ أَمَتِهِ مِنْهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَلَمْ يَحْتَجْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقٍ، وَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى مَمْلُوكٌ فَلَا يَعْتِقُ بِالشِّرَى حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهُ عِتْقًا.
قِيلَ لَهُ: اخْتِلَافُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَمْنَعُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبْقَى لَهُ مِلْكٌ عَلَى وَلَدِهِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ أَنْ يَعْتِقَ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ أَنْ يَبْقَى لَهُ مِلْكٌ عَلَى وَلَدِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ مِنْ أَمَتِهِ رَقِيقًا إلَى أَنْ يُعْتِقَهُ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ مِنْ أَمَتِهِ وَالْوَلَدُ الْمُشْتَرَى فِي كَوْنِ الْأَوَّلِ حُرَّ الْأَصْلِ وَكَوْنِ الْآخَرِ مُعْتَقًا عَلَيْهِ ثَابِتَ الْوَلَاءِ مِنْهُ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْوَلَدَ الْمُشْتَرَى قَدْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ فلابد إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ وُقُوعِ الْعَتَاقِ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ إيقَاعُ الْعِتْقِ فِي مِلْكِ بَائِعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْعَتَاقُ فِي مِلْكِهِ لَبَطَلَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِتْقِ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا وُقُوعُهُ فِي حَالِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْعِتْقِ يَنْفِي صِحَّةَ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ يَعْتِقَ فِي الثَّانِي مِنْ مِلْكِهِ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا وُقُوعُ الْعَتَاقِ فِي حَالِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إيقَاعُ عِتْقٍ لَا فِي مِلْكٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَعْتِقَ فِي الثَّانِي مِنْ مِلْكِهِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ فِي مِلْكِهِ مِنْ جَارِيَتِهِ فَإِنَّا لَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ مِلْكًا فِيهِ كَانَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِتْقِ فِي حَالِ الْمِلْكِ، فَلَا جَائِزَ أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُهُ مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِيهِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْعَتَاقِ فِي تِلْكَ الْحَالِ فَكَانَ حُرَّ الْأَصْلِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مِلْكٌ فِيهِ، وَلَوْ ثَبَتَ مِلْكُهُ ابْتِدَاءً فِيهِ لَكَانَ مُسْتَحَقَّا بِالْعِتْقِ فِي حَالِ مَا يُرِيدُ إثْبَاتَهُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ الْمُوجِبِ لَهُ وَهُوَ مِلْكُهُ لِلْأُمِّ، وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ مِلْكِ يَنْتَفِي فِي حَالِ وُجُودِهِ، وَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ لِوَلَدِهِ فِي الْحَالَيْنِ مُوجِبًا لِعِتْقِهِ وَحُرِّيَّتِهِ. اهـ.